السبت، 3 فبراير 2018

جراحنا و الكتابة



3 فبراير 2018


جراحنا و الكتابة

حين تتوقف عن الكتابة لفترة من الزمن تعتريك الكثير من العوارض التي لا تدرك حينها أنها منبثقة عن صمتك الذي لم تعتده. الكتابة نمط من التفكير المركز، التفكير بصوت مقروء، أو لعله صوت تحسبه مسموعا حتى و إن لم يقرأه أحد. ربما كان حينا كإلقاء لرسالة في زجاجة ترمى في البحر، أو توثيقا لموقف أو رأي لم تسنح الفرصة لإبداءه تحدثا لمن ينبغي إبداؤه لهم. و حين نتساءل عمن يكون هؤلاء، فهم أكثر أو أقل من أن يتم تعريفهم أو تحديدهم. لعله أشبه ببيان تعنونه كلمة إلى من يهمه الأمر.
الكتابة نوع من الشكوى حينا أو التذمر أحيانا، و لمن بدأ في كتابة المقال تذمرا في الصف الرابع الإبتدائي، فهي حتما جزء من تركيب شخصيته التي بدأ يدركها حين انتصف به العمر وهي الدواء لكثير من علله التي يتسبب بها الجمود كالوساوس و الهواجس و الخوف من الزمن. نعم، إن الطنين الموجود في أدمغتنا إن لم نغط صداه بما هو أعلى منه وقعا، يتحول إلى وهن يصيب أعصابنا و يشعرنا بالتهاوي.
نعم هي العودة للقلم أو لوحة المفاتيح إذا شاء الله لها الإستمرارية بعد جمود طويل تخللته تغييرات مختلفة على المستوى الشخصي، تركت آثارها التي لا تزول إلا بالكتابة و التواصل مع الأفكار الأخرى و الأدمغة و الأحاسيس.
و من جهة أخرى فجراحنا التي لا تبرئها إلا الكتابة أو التحدث، تكون بعضها جراحا على المستوى العام، مستوى الفكر، مستوى الثقافة، مستوى العقيدة أو مستوى الواقع الإجتماعي. الحوادث التي تمر عليك فتتخذ موقفا إزاءها بداخل دماغك المشحون فتضيف له زخما و إزدحاما إضافيا لا يمكنه تحمله إلا بالتعاطي معه و تحويله إلى كلمات على يمكن للآخرين قراءتها و ربما التفاعل معها في يوم من الأيام.
يقلقني اليوم حدثان رأيتهما رأي العين في وسائل التواصل حول شخصين كانا يمارسان الفلسفة و الإبتداع فيما لا يمكن فيه إلا استقراء النصوص، دون أن ينبري أحد لمناقشة سلوكهما هذا، أو التحذير منه أو تسميته بمسماه الصحيح، حتى وقعا في محذور عجيب. لقد مر تصادمهما مع النصوص مرور الكرام، و مر بعض التجديف دون أن يكون له صدى، بل انبرى البعض للدفاع عن حرية الفكر و إطلاق المحامل الثمانين و التسعين و الألف بعد تكسر سبعين الخير.
كان المحذور الذي وقع فيه الإثنان في فترة واحدة ليس مع النصوص، أو أصحاب النصوص، بل كان مع بعض الشخوص. حينها فقط أدركت أن الشخوص الحاضرة من قادة سياسة أو أصحاب نفوذ داخل أسوار الجماعات و الطوائف، تمتلك من القداسة ما يحول الأتباع إلى مجموعة من الموتورين الذين يرفعون سيوف التخطئة و يخرجون شواهد كل سوابق الشخصين من التجديف بشكل واضح في حرب علنية. خروج هذه الشواهد للعلن في حرب إعلامية تدل على أن الأتباع و قياداتهم لم يكونوا غافلين عن أفكار هؤلاء، وإنما كانوا متغافلين، كانت النصوص حربا لا تهمهم، لكن برزت غيرتهم مع أول تعد على الشخوص.
و بغض النظر عمن يكون هذان أو من يكون المتعرض لتعديهما، فإن الأتباع قد تركوا ما سبق في حينه تغافلا و ربما تذرعا بأن للبيت ربا يحميه، فتركوا حتى الرد على الأباطيل ما لم تمسهم أو تمس مقدساتهم الفعلية، ثم انتفضوا و أخرجوا كل ما ذخروه غضبا لما انتهك من شخوصهم المقدسة. و على هذا و ذاك، سنجد من يطالب بالتروي في الحكم على آراء هؤلاء حاضرا إلى أن يعلو صوت الموتورين، فسنرى هؤلاء المتعيقلين تخفت نبرتهم، لأنهم يعرفون حق المعرفة أن للشخوص و لود و سواع و نسر ما ليس للنص ولا لنوح و لإبراهيم، إن لهم أتباعا يغضبون لهم و يغارون عليهم و يقرعون طبول الحرب التي يحس بقرعها الأصم قبل ذي السمع.
هل حان أن نفيق من الغشوة و نعلم أن لنا دورا في استشراء الأدواء بسبب صمتنا حتى عن التفكير فيما يهرف كل من لا عقل له برأي لا حجة فيه ولا برهان تحت عنوان حرية الفكر فتتلقفه الأذهان الضعيفة و الأحلام الخفيفة ثم تنتفخ ذوات هؤلاء اللاأشياء فيظنون أنهم فرسان الميدان و مقارعو الشجعان و من ليس لهم نظراء ولا أقران.

آخر الوحي:

يقولون لي دع نصر من جاء بالهدى
و غالب لنا غلاب كل مغالب
و سلم إلينا أحمدا و اكفلن لنا
بنيا ولا تحفل بقول المعاتب
فقلت لهم الله ربي و ناصري
على كل باغ من لؤي ابن غالب


منسوب لأبي طالب

الأربعاء، 16 أكتوبر 2013

السنة من المريخ و الشيعة من الزهرة









على غرار الكتاب الشهير الذي شغل الدنيا و الناس، الكتاب الذي حاول إيصال فكرته عن طريق هذا التشبيه، "الرجال من المريخ و النساء من الزهرة"، حاول هذا الكتاب أن يوصل للقراء و تمكن من ذلك بشكل كبير، من أن الرجال و النساء يفكرون بطريقة مختلفة و يعبرون عن أنفسهم بطريقة مختلفة، و يتواصلون في علاقاتهم الإنسانية بطريقة مختلفة. على غرار هذا العنوان، خرج على عالمنا الإسلامي و بصورة أكبر في دولنا العربية من يحاول إقناع الناس بأن الطوائف الإسلامية أتت من كواكب مختلفة، و ربما ذهب إلى أبعد من الإقناع.

و رغم أنني لا أشك بتاتا أن الإتجاهات المتشددة و المتعصبة و الداعية إلى القتال والفرقة بين طوائف المسلمين و مذاهبهم هي بالفعل قد أتتنا إن لم يكن من خارج هذا الكوكب "خارج الإنسانية" فهي على الأقل قد جاءتنا من خارج الإسلام و مبادئه و التراث الأصيل من العيش المشترك. لا شك أن هذه الفرق الدموية قد جاءتنا كنتاج للتأثر بأفكار و قوى غير متصفة بالتدين بل لا أقول التأثر و إنما الإرتباط الإستراتيجي في نشأتها و استمراريتها.

هذه الإتجاهات الباغية على الناس عموما و ليس على المسلمين أو بعضهم خصوصا، قد حملت معها ثقافة تكفير الآخر أي آخر و تفجير الآخر أيا كان و قتل من يعتبر خصما، سواء كان نداً أو شيخا كبيرا أو طفلا أو امرأة. و هذه الإتجاهات لا يصح عليها لفظ طوائف، بل هي كمجموعات مسلحة يصح عليها لفظ عصابات إجرامية تعيث في الأرض فسادا، لا أقل ولا أكثر.

ولا أعتقد أن أحدا يشتبه عليه أمر أمثال هؤلاء سواء حملوا شعارات ظاهرها الإسلام، أو كانت مجموعات تدعي الدفاع عن المسيحية، أو مجموعات عنصرية ضد أعراق معينة. كل هذه المجموعات التي تتحرك تحت هذه العناوين هي عصابات إجرامية تعمل لأهداف معينة و بإرتباطات دولية لتحقيق أهداف معينة عبر ذرائع لا يمكن للجيوش النظامية حملها.

الأمر مفهوم تماما في هذه الصورة، أما غير المفهوم أن يخرج علينا الفكر و الإعلام المضلل و السياسة  الذي يحاول بعد قرون من نشأة المذاهب الإسلامية و تعايشها الطبيعي أن يخبر طائفة من المسلمين أن طائفة أخرى قد أتت من كوكب آخر، و كأنهم ليسو أناسا من لحم و دم، يأكلون و يشربون و يعيشون و يعمرون. يتكلم الإعلام عن طائفة ما بإعتبارها حاضنا للخيانة و العمالة، و بكل صدق فإن ما أنقله عن كلام الإعلام المضلل الكاذب لا ينطبق على طائفة دون أخرى، فلكل قوم من يلمزهم و يتهمهم و يتجنى عليهم.

و بكل بساطة فإن الإنسان إذا قبل أن يكون الآخر كل الآخر من المريخ، فبالتأكيد لن يكون هو من الأرض، إذا أنت تعاملت مع الآخر بإعتباره مستذئبا تستحل حرمه، فلن يعتبرك إلا مصاص دماء خطر بقاؤه. و بالنتيجة فإن الإثنين يكونان غير أرضيين، لا يجمعهم حتى رحم الإنتماء لطين الأرض. و بالتأكيد فإن هذا الكلام و هذه النتيجة هو ما يراد له أن يكون سائغا و مقبولا ليتمسك كل طرف بهويته المريخية و الزهرية بعيدا عن النسب الأرضي.

فلنأخذ البحرين مثالا، كيف من الممكن أن يقبل الناس و المؤسسات خطابا على رؤوس الأشهاد يقف فيه متنطع يصف بعض أهل هذه الأرض في نسبهم و عرضهم بأقذع الأوصاف و الشتائم؟ متجاوزا تاريخا طويلا من العلاقات الإنسانية الجميلة لا يستطيع مثله فهمه؟ يأتي ليقول للناس أن إخوتكم جاؤوا من الزهرة أو المريخ؟

و الأمر لا يقتصر على خطيب، بل يتجاوزه إلى كاتب و إعلامي و نائب و اذكر ما شئت من صنوف الوظائف و الأدوار ممن حملوا شعار التفرقة الطائفية عن علم أو جهل، مسببين بذلك أن يستنفر العامة و يستقطب العامة و يحصل الهرج و المرج و مقدمات من التوتر كادت أن تؤدي إلى مالا يحمد عقباه. اليوم ربما وصم كلام الساسة الأمريكان و غيرهم بالمبالغة و دفع بدفوعات مختلفة فقط لإخراج البحرين من المقارنة مع الدول التي تعيش احترابا و من المبالغة، و إلا فإنه لا الشعبيون ولا الرسميون في البحرين ينكرون وجود خطاب في فترة من الفترات لا يخدم السلم الأهلي.

اليوم أعتقد أن الجميع يعي خطورة الخطاب الداعي إلى التمييز أو التصارع بين فئات المجتمع تحت عناوين طائفية و عنصرية، ولكن قيل قديما أن ألفا ممن يعمر لا يمكنهم الإنجاز لو وجد واحد ممن يهدم يفسد عملهم.

آخر الوحي:

ذرني و أشجاني و جسمي و الضنى

و يدي و أقلامي و طرفي و السهر

أأبيت ألهو والهموم تحيط بي

وأنام عن قومي و قومي في خطر

صوت المصفق موعد مابيننا

ماذا أقول لهم إذا الديك استحر؟

إيليا أبو ماضي

 

الأربعاء، 6 فبراير 2013

شجاعة الإغماء






في أكثر من مرة سافرت جواً و أحسست بتوتر الركاب لسبب ما و خوفهم من وقوع شئ ما، يؤدي بهم إلى ما لا يحمدون عقباه. هناك من يستخدمون الكيس الورقي الموجود في المقعد عند ركوبهم الطائرة و هناك من يغمض عينيه و هناك من يتجنب السفر بالطائرة. إلا أنني لم أشعر بذلك كله إلا حين يكون هناك مطبات جوية أو إحساس بوجود خلل ما في الطائرة.
في المرة الأخيرة شعرت أن أمراً غريباً يحصل، إذ لا يعقل أن لا يكون هناك شئ من الخوف، و لذلك قمت بالتفكير في حقيقة ما يحصل، حاولت قدر الإمكان عدم الإنفصال عن الواقع. و الواقع و معطياته يقولان أنني جالس في كرسي داخل مقصورة معدنية تسير بين الغيوم، معلقة بين السماء و الأرض، معرضة لكل العوامل الجوية و الفنية و القدرية التي قد تجعلها تتهاوى، و حين تتهاوى فالنتيجة الحتمية هي الدخول إلى العالم الآخر من أوسع أبوابه !! ليس خوفاً بالقدر الكافي رغم ما استشعرته نفسي من رهبة. لعله قد تكونت في النفس حواجز تمنع الشعور بحقيقة ما تواجهه من موقف خطير، أو هي آلية دفاعية لتجنب التفكير في ما قد يخيف.
هنا تساءلت عن ماهية ما يسمى بالشجاعة، هل الشجاعة تكمن في تجاهل العواقب؟ أم أن الشجاعة تكمن في استصغار الهلاك؟ هل هي بالإنفصال عن التفكير في الظروف المحيطة؟ هل الشجاعة ناجمة عن الجهل التام أو تمام المعرفة، هل هي طيش شديد أم أنها تفكير عميق؟ ما الذي يقتل غريزة بالغة الأهمية كغريزة البقاء؟
هل هو استصغار للنفس التي يرعاها الإنسان ليله و نهاره ؟ أم أنه وعي بعدم قدرته على الحفاظ عليها و أن أمرها ليس بيده؟ أو لأنه يرى هدفه السامي في إفنائها بأكبر ما قد تحققه من قيمة مثالية؟
ينطبق هذا أيضاً على الكرم، فالمال عديل الروح، و لا يمكن أن يسمى السفه كرماً، لا بد أن يكون البذل عن وعي تام و إلا خالف أصول العقل بل حتى خالف القدر السامي لقيمة الكرم و ما كان لها أي مكانة و لا عدت مكرمة لحاملها.
حتى الحزن عند الفقد، هل هو حزن وفاء و ألم لأن الفقيد غادر حياته أم لأنه غادرنا و خسرناه نحن، هل هو إيثار منا أم استئثار؟

الخميس، 10 يناير 2013

وداعاً أباعلي




الخميس 10 يناير 2013

وداعاً أبا علي


لم يكن ليتأكد لي أن آخر أربعاء في شهر صفر هو يوم منحوس أو أنحس أيام السنة كما كان أمس. فبعد أن خرجت صبيحة ذلك اليوم متعوذاً من شره، و مرت أول السويعات بسلام جعلني أتناسى هذا الإستيحاش، وجدت الهاتف يضج برسائل شتى، و وجدت أكثرها تكراراً خبر رحيلك عن الدنيا عبر محطة الكاظمية. لحظة صمت و صدمة ثم نشيج مكتوم و السيارة تمضي بي إلى وجهتي إلى أن توقفت غير مصدق. فلكم كنت تضج بالحياة لتتعاظم الصدمة بالخبر، و لكن مع كل راحل متعجل يتأكد أمر هو أن الدنيا ليست دار سكنى الطيبين الذين حالما تصل عذوبتهم إلى ذلك الحد فسرعان ما تطالب الآخرة بهم لينتقلوا إليها. نعم كان يوما منحوساً لمن أحبوك، و لكنه بلا شك يوم سعدك أن ترحل بهذه الخاتمة التي لا نرجو لك بعدها إلا الإلتحاق بمن سألت الله بحقهم أن يلحقك بهم. صدقني تذكرت حينها رجلاً مؤمناً وافاه الأجل و هو في طريقه لعيادة أبيه المريض و آخر على أعتاب الجامع حتماً تعرفهم و ربما كنتم الآن تحلقون جميعاً في وادي السلام و إن إختلفت محطات السفر.

أباعلي، لم أكن لصيقاً بك كما سواي، و لكن صدقني لا أظن أحداً سمع بنبأ رحيلك إلا و أصابته الصدمة، و أهل البلدة كلهم يعيشون وقعها، بل كل من عرفك، فهنيئاً لك أيضاً بهذه المحبة الصادقة التي نبضت بها قلوب الناس جميعاً تجاهك، و إنك لحقيق بها، فلقد بذرتها و سقيتها و تعهدتها حتى ارتفعت أغصانها وأزهرت براعمها. و كيف لنا أن نتعجب من هذا الحب كله لك و أنت الذي كان محياك يشرق بالبسمة و ثغرك يصدح باللطف و التودد للصغير و الكبير و قلبك ينبض بالحب. كان كل صغير إبن أختك و كل كبير عمك.

أباعلي ما سر هذه المودة غير أنك كنت لا تحجبك الفكرة عن العاطفة، و لم تكن أبداً تعيش مع أي فرد عقدة فارق السن، و أخال أينا حين يعبر عنك و هو يروي حادثة ما بالصديق، رغم أن الكثير من محبيك هم بلا شك في عمر أبنائك. لقد كسرت كل الحواجز الباردة  لتصل إلى دفء مشاعر القلوب، و لكن سأصدقك في هذه، إن البسمة التي زرعتها بأريحيتك قد انتزعها بقسوة نبأ رحيلك. و ها أنا أخط هذه الكلمات تعبيراً عن بعض تلك المحبة الصادقة التي زرعتها ثم لم يكن ليظهرها إلا وقع رحيلك المتعجل.

نم هنيئاً أيها العم بجوار أمير المؤمنين الذي ذبت في عشقه حتى سميت كل أبنائك بإسمه و أفنيت سنينك في خدمة محبيه، تقبل الله منك عملك بأحسن القبول و تغمدك بواسع رحمته و أسكنك الفسيح من جنته بصحبة محمد و آل بيته الطاهرين صلواته عليهم أجمعين و ألهم أهلك و محبيك الصبر و السلوان .



إلى رحمة الله أيها الحاج عبدالحسن العاشوري، و وداعاً أبا علي...

الجمعة، 28 سبتمبر 2012

أفيون الشعوب

نشرت في نشرة جمعية الرابطة سبتمبر 2012


أفيون الشعوب

ربما لم يدر في خلد كارل ماركس يوم أطلق مقولته "الدين أفيون الشعوب" و لم يكن في أقصى أمنياته يوماً أن يتبنى رجال المؤسسات الدينية هذه المقولة أو أن يقتنعوا بها و ربما أن يصل الأمر حد الترويج لها. ذلك أن الباعث لإطلاق مثل هذه الكلمة هو إعلان الحرب على الأديان و اعتبارها خرافة و أداة في يد أصحاب السلطة و ربما طلابها. فمن الراجح إذن أن لا يكون هناك متدين يقبل أن يكون معتقده خرافة، و الأمر يكون أشد إذا كان شخص ما ممن يفترض فيهم حمل لواء الدين.

حين نبحث في كلمة أفيون، نجد أنها تعني أن الدين أداة تخدير للشعوب ليتمكن رجال السلطة التحكم فيهم و سوقهم في الإتجاه الذي يريدون، و بالطبع يحوي هذا الكلام عدة مغالطات. فالدين بما هو دين ليس مدعاة لتخدير الناس ففي أحكام الدين كما في الإسلام مثلاً التشريعات و نظام الحياة للناس من حاكم و محكوم و ما ينبغي على كل منهم و لكل منهم من واجبات و حقوق، كان فيها علي ابن أبي طالب رأس الدولة يخصف نعله و يرقع ثوبه و لا يسكن القصر المنيف و لا يزيد على إدام في صحفة الطعام و ربما أكل القرص بلا إدام أو أن يتصدق بقرصه الشعير ليبيت طاوياً. علي بن أبي طالب الذي كوى أخاه عقيل بحديدة حين طلب زيادة في عطائه من بيت المال، و خذ من سيرته ما تشاء من أروع أمثال الحاكم العادل و ابحث عمن سار على سيرته أو حاول ذلك لتجد أن الدين ما كان داعية للحاكم أن يتسلط.

الدين نفسه ليس مدعاة للتخدير كشريعة، و لكن كل الأفكار إذا انتهت إلى عبادة أو تقديس الرجال يمكنها أن تكون من أجود أنواع الأفيون، ولا يسلم من ذلك حتى الأحزاب الشيوعية أو اللادينية حين يصير رجالاتها أو قياديوها أيقونات للحق و العدل و تذهب الفكرة حين يأتي الرجل الكبير و يضع فكرته المخالفة لها فتكون هي المقبولة قبال المبدأ الأساسي، و الشئ اللطيف أن هذا مما حاربه الدين عندنا فتكلم على الأمم السابقة التي اتخذت الأحبار و الرهبان أرباباً من دون الله يحلون الحرام و يحرمون الحلال، و هذا مما يمكن أن تقع فيه كل الأفكار ذات الفلسفة المثالية أو حتى المدارس غير المثالية حين تنقل قدسية الفكرة إلى قدسية الأشخاص الذين هم حملة الفكرة و إن لم يعملوا بها.

أقول لم يتمن ماركس أن يأتي رجال الدين يوماً فيتكلموا عن أفكارهم فيتعاملوا معها على أنها بالية فضلاً عن أن يطلقوا عليها صفات البالية أو العفنة و لم يتوقع تلاميذه أن يصير المتدين يطلق على ما هو قديم كلمة "رجعي" التي هي من قاموس اليسار في الستينات و السبعينات. و أما ما يجعل الرجل مشدوهاً و هو في قبره  أن يجد حملة الأديان يقومون بالتنظير لنقضها في سبيل قضايا ليست ربما من مهامهم فيكونون كخريج الجامعة الذي بدل أن يعيد دراسته في تخصص جديد يمزقها و يهزأ بها ثم يتجه حيث أراد شرقاً أو غرباً.

كل هذا و نحن نتكلم في موضوع الكلام و التنظير و لم نتكلم عن التصرف و المنهج. فاليوم نجد من منظور آخر أن الدين هو ضحية لأفيونات أخرى يستخدمها طلاب السياسة فتكون هي المخدر لهم عن كل ما يحمله الدين من مبادئ و أخلاق و أحكام و لست أعني بهذا الكلام فئة معينة، و إنما بالإمكان توجيه هذا الكلام لكل من يحمل عناوين براقة يخادع بها الناس و يظهر بمظهر أنه حامل لمشعل العدالة و الحرية و الإصلاح، و تجده في سبيل ذلك قد هدم ما هدم من مبادئ دينية، و بالتأكيد فإن التقديس له من ناحية و ما يعلنه من صكوك متوفرة دنيوية و أخروية تجعل الناس لا تفكر في ماهية ما يقودهم إليه و هل هو حق و صدق أم لا.

اليوم كما الأمس و كما قبله لا يحتاج الناس أفيوناً من الدين ممن يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، و إنما يكفي أن تعدهم بأشياء أخرى يبحثون عنها عبر مناهج صاروا يؤمنون بها، و ستجدهم معك في الإتجاه الذي تريد. و هنا طلب أخير، هل لا أخليتم سبيل الدين و رحمتموه فكأني به ضاق ذرعاً بما يرتكب الكثيرون بإسمه و هو من كل ذلك براء.

الأربعاء، 19 سبتمبر 2012

قبل وضع السدادة

بعد عامين من الكتابة في الصحف، و جمع شئ من الخبرة حول الكتابة الصحفية، و معرفة ظروف الكتابة، وجدت أنني أتلمس طريقي في الظلام. لأعرف مساحة المسموح و الممنوع ، و وجدت جزءاً كبيراً من المنع و الحذف غير متعلق بالقانون بقدر ماهو متعلق بمزاج الرقيب أو بإنتماءه الفكري أو إجتهاده في قراءة هامش السماح.

من هنا وصلت إلى أن التدوين يفترض أن يكون بمساحة أكبر من الحرية التي لا يحدها إلا الحدود الشخصية التي يضعها الكاتب لنفسه بين إعتبارات مختلفة من الأخلاق و قدسية الكلمة و القانون نصاً أو تطبيقاً و الجدوى أو ما يسمونه مظنة التأثير.

إذن فالبداية ستكون حتماً مما لم يسمح اجتهاد الرقيب له أن يكون كلاماً مفهوماً في الصحف ليتحول إلى رسالة في زجاجة يلقيها كاتب هذه السطور في البحر بعد ان يحكم إغلاقها، آملاً أن تجد صدى عند من يفتحها على ضفة أخرى، ضفة لا تكون محكومة بالتعصب و المغالبة لأنها منفصلة عن أي صراع في منبع الماء فتكون شهادة على عصر و موعظة حسنة من شخص غير باحث عن المنفعة لآخر لا تربطه به أي صلة.

و ربما امتدت سطور الرسالة و تشعبت مع كل جديد قد يبدأ مباشرة في فضاء الأفكار غير طامح أن يجد طريقه للنشر في صفحات و وريقات ترمى في اليوم التالي من طباعتها أو تستحيل غطاء لمائدة الطعام.

طموح الكلمة و هم الكتابة قد تملكا من ذلك القلم فأفضى إلى زجاجته بما تضيق به نفسه غير عابئ إن وجدت أفكاره طريقاً إلى قارئ واحد اليوم أو صارت تحفة معلقة في فضاء إلكتروني لا تحمل من القيمة إلا أنها معتقة الإلقاء و صورة باهتة الألوان تثير فضول جيل قادم فيسبر سطورها ليشبع ذلك الفضول فحسب.

محمود المبارك
19 سبتمبر 2012
مملكة البحرين

الأحد، 13 نوفمبر 2011

تلك الحقيقة (نسخة كاملة)






13 نوفمبر 2011





منذ تم تعيين اللجنة الملكية المستقلة لتقصي الحقائق في أحداث فبراير و مارس 2011، توجهت إلى رئيس اللجنة السيد بسيوني الأنظار و الألسن و المقالات. حاول البعض النيل من استقلاليته و الضرب في مصداقيته أو تعليقها على على ما يصدر عن تقريره الموعود في الثالث و العشرين من الشهر الجاري. الكثيرون يترقبون هذا التقرير، فالقيادة تعول عليه و الشعب ينتظره و الجمعيات تترقبه. بدورها الدول الأخرى المتابعة و المهتمة بالشأن البحريني تنتظر منه الكثير. فقد علقت عليه هيلاري كلينتون في الأسبوع الماضي و كأنما تشير إلى أنه يجب أن يكون نقظة التحول في الشأن الداخلي لإنهاء الأزمة.

اليوم و قد فرغ الجميع من رسائلهم القولية و العملية الموجهة إلى السيد بسيوني، لا يفوتني أن أوجه بعض ما أعرفه للسيد بسيوني عما عرفته و عاينته. فقد قرأت في صحيفة الأيام بتاريخ 21 سبتمبر 2011 الكلام حول زيارة لجنة تقصي الحقائق للمساجد المتعرضة للتدمير الجزئي و الكلي، و أتذكر كيف قيل في بعض وسائل الإعلام يوماً ما أن ما هدم إنما هدم إما لعدم وجود ترخيص أو لأنه بني في أرض غير مملوكة، و زبدة القول أنه بناء غير قانوني.

و لا أعتقد أنني أقول جديداً حين أقول أن هذا الكلام غير صحيح إجمالاً، فبعض هذه المعالم يزيد عمرها عن المائة عام. ربما لم أزرها كلها، إلا أنني أعرف بعضها. فمسجد الأمير محمد البربغي الكائن على الطريق السريع بين مدينة حمد و المنامة، هذا المسجد أمر به كل يوم صباحاً و مساءاً. كثيراً ما تتمتم زوجتي عندما نمر بجواره كما عند المزارات الأخرى، فأفهم أنها تقرأ الفاتحة. و قالت لي مرة أن أحد أجدادها قد بنى هذا المسجد.

أما جدي الشيخ إبراهيم ال مبارك المتوفى في عام 1979 فيقول عن مسجد الأمير محمد في كتابه حاضر البحرين :"في طرف عالي من الغرب، و عليه قبة بنيت في قريب العهد، ولم نعرف عنه شيئاً و لعل امارته تلك قيادة جيش كأمير زيد". أقول و عبارة جدنا عن عدم معرفة شئ عن الأمير محمد فقد تكون دالة على قدم هذا المسجد و تشييده.

اليوم نمر على نفس المكان في طريق الذهاب و العودة فتكون التمتمة بالفاتحة في نفس الموضع، الذي لم تعد قبته تشير إليه، و لكننا نعتمد على الذاكرة في معرفته.

هذا مما أعرفه يا سيد بسيوني و لا أدري إن كنت بهذا أعلق قبول نتائج التقرير على قدرته على ذكر هذه الحقيقة، و أن هناك مساجد هدمت رغم كونها مرخصة. و لكنني أتمنى أن يكون تقريرك نقطة لتجاوز أخطاءالماضي بعد تصحيحها.

قد يقول البعض يا سيد بسيوني و لماذا ذكر هذا الأمر دون انتهاكات المعارضين، فأقول لهم، وثقوها و ارفعوها  للجنة و كذلك ارفعوها للقضاء و خذوا حقوقكم بالقانون. و لكن هذه اللجنة المستقلة قد شكلت لإنصاف من لم يجد الإنصاف و لمن لم يستطع أن ينتصف بالقانون، و لكل من يقول أن أخطاء ممنهجة أو غير ممنهجة قد انتهكت حقوقه.

لا أحد يحسد اللجنة و رئيسها و أعضاءها لأن الجميع ينتظر ما يرضيه، و حتى لو تمكنت اللجنة من أن تحقق شيئاً من الإنصاف فهي لن ترضي أحداً إلا إذا استطعنا تحويل ما تخرج به إلى معطيات تمكننا في المضي لبناء البلد من جديد عبر إصلاحات كبيرة و شاملة.

آخر الوحي:

أضحى التشاؤم في حديثك بالغريزة و السليقة
مثل الغراب نعى الديار فأسمع الدنيا نعيقه
تلك الحقيقة و المريض القلب تجرحه الحقيقة
أمل يلوح بريقه فاستهد يا هذا بريقه
ماضاق عيشك لو سعيت له ولو لم تشك ضيقه
إبراهيم طوقانأتوقع