نشرت في نشرة جمعية الرابطة سبتمبر 2012
أفيون الشعوب
ربما لم يدر في خلد كارل ماركس يوم أطلق مقولته "الدين أفيون الشعوب" و لم يكن في أقصى أمنياته يوماً أن يتبنى رجال المؤسسات الدينية هذه المقولة أو أن يقتنعوا بها و ربما أن يصل الأمر حد الترويج لها. ذلك أن الباعث لإطلاق مثل هذه الكلمة هو إعلان الحرب على الأديان و اعتبارها خرافة و أداة في يد أصحاب السلطة و ربما طلابها. فمن الراجح إذن أن لا يكون هناك متدين يقبل أن يكون معتقده خرافة، و الأمر يكون أشد إذا كان شخص ما ممن يفترض فيهم حمل لواء الدين.
حين نبحث في كلمة أفيون، نجد أنها تعني أن الدين أداة تخدير للشعوب ليتمكن رجال السلطة التحكم فيهم و سوقهم في الإتجاه الذي يريدون، و بالطبع يحوي هذا الكلام عدة مغالطات. فالدين بما هو دين ليس مدعاة لتخدير الناس ففي أحكام الدين كما في الإسلام مثلاً التشريعات و نظام الحياة للناس من حاكم و محكوم و ما ينبغي على كل منهم و لكل منهم من واجبات و حقوق، كان فيها علي ابن أبي طالب رأس الدولة يخصف نعله و يرقع ثوبه و لا يسكن القصر المنيف و لا يزيد على إدام في صحفة الطعام و ربما أكل القرص بلا إدام أو أن يتصدق بقرصه الشعير ليبيت طاوياً. علي بن أبي طالب الذي كوى أخاه عقيل بحديدة حين طلب زيادة في عطائه من بيت المال، و خذ من سيرته ما تشاء من أروع أمثال الحاكم العادل و ابحث عمن سار على سيرته أو حاول ذلك لتجد أن الدين ما كان داعية للحاكم أن يتسلط.
الدين نفسه ليس مدعاة للتخدير كشريعة، و لكن كل الأفكار إذا انتهت إلى عبادة أو تقديس الرجال يمكنها أن تكون من أجود أنواع الأفيون، ولا يسلم من ذلك حتى الأحزاب الشيوعية أو اللادينية حين يصير رجالاتها أو قياديوها أيقونات للحق و العدل و تذهب الفكرة حين يأتي الرجل الكبير و يضع فكرته المخالفة لها فتكون هي المقبولة قبال المبدأ الأساسي، و الشئ اللطيف أن هذا مما حاربه الدين عندنا فتكلم على الأمم السابقة التي اتخذت الأحبار و الرهبان أرباباً من دون الله يحلون الحرام و يحرمون الحلال، و هذا مما يمكن أن تقع فيه كل الأفكار ذات الفلسفة المثالية أو حتى المدارس غير المثالية حين تنقل قدسية الفكرة إلى قدسية الأشخاص الذين هم حملة الفكرة و إن لم يعملوا بها.
أقول لم يتمن ماركس أن يأتي رجال الدين يوماً فيتكلموا عن أفكارهم فيتعاملوا معها على أنها بالية فضلاً عن أن يطلقوا عليها صفات البالية أو العفنة و لم يتوقع تلاميذه أن يصير المتدين يطلق على ما هو قديم كلمة "رجعي" التي هي من قاموس اليسار في الستينات و السبعينات. و أما ما يجعل الرجل مشدوهاً و هو في قبره أن يجد حملة الأديان يقومون بالتنظير لنقضها في سبيل قضايا ليست ربما من مهامهم فيكونون كخريج الجامعة الذي بدل أن يعيد دراسته في تخصص جديد يمزقها و يهزأ بها ثم يتجه حيث أراد شرقاً أو غرباً.
كل هذا و نحن نتكلم في موضوع الكلام و التنظير و لم نتكلم عن التصرف و المنهج. فاليوم نجد من منظور آخر أن الدين هو ضحية لأفيونات أخرى يستخدمها طلاب السياسة فتكون هي المخدر لهم عن كل ما يحمله الدين من مبادئ و أخلاق و أحكام و لست أعني بهذا الكلام فئة معينة، و إنما بالإمكان توجيه هذا الكلام لكل من يحمل عناوين براقة يخادع بها الناس و يظهر بمظهر أنه حامل لمشعل العدالة و الحرية و الإصلاح، و تجده في سبيل ذلك قد هدم ما هدم من مبادئ دينية، و بالتأكيد فإن التقديس له من ناحية و ما يعلنه من صكوك متوفرة دنيوية و أخروية تجعل الناس لا تفكر في ماهية ما يقودهم إليه و هل هو حق و صدق أم لا.
اليوم كما الأمس و كما قبله لا يحتاج الناس أفيوناً من الدين ممن يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، و إنما يكفي أن تعدهم بأشياء أخرى يبحثون عنها عبر مناهج صاروا يؤمنون بها، و ستجدهم معك في الإتجاه الذي تريد. و هنا طلب أخير، هل لا أخليتم سبيل الدين و رحمتموه فكأني به ضاق ذرعاً بما يرتكب الكثيرون بإسمه و هو من كل ذلك براء.